* * *
* * *
بسم الله الرحمن الرحيمانتشرت الحمامات الشعبية قديماً لتحقق مهمتها الأساسية عندما كانت البيوت تفتقد لهذه المرافق الضرورية . وكان الرجال يزورون الحمامات لقضاء وقت قصير وبهدف الاستحمام فقط ، بينما أسست حمامات النساء لتقاليد زيارة خاصة ، وكونت تدريجياً عادات راسخة ضمن حياة المرأة الاجتماعية ، حيث كان المجتمع القديم يفرض ضوابط كثيرة على خروج المرأة ، ليصبح ذهاب النساء إلى حمام السوق ما يشبه السيران ، ويكون فرصة لتعميق التواصل الاجتماعي من خلال زيارة تجمع هدف الاستحمام مع رغبة قضاء وقت ممتع . كما ارتبط حمام السوق بمجموعة من المناسبات الخاصة المتعلقة بالاحتفال بالعروس ومجيء مولود جديد ، بينما تتحول هذه الحمامات في الوقت الحاضر إلى معالم أثرية مخصصة للاطلاع الثقافي وخدمة السياحة ، وتستمر في استقبال عائلات كثيرة من أهل الشام في الأوقات المخصصة للنساء ، من خلال زيارات متباعدة لاستعادة عادات حياة الماضي ، فيما تشهد زيارات متتابعة من الأجنبيات بهدف معايشة الأجواء القديمة
ونالت الحمامات الشعبية مكانة خاصة في المجتمع السوري منذ أقدم العصور ، وكانت مدن بلاد الشام زاخرة بالحمامات ، وجميعها تأسس حسب ثلاثة أقسام ، هي البراني (البارد) والوسطاني ( الفاتر) والجواني (الساخن) ، إلى جانب العديد من الغرف المعدة لخلع الملابس والاستراحة والمستودعات ، وكانت المياه تسخّن بطريقة إيقاد النار تحت الحوض الحجري المعد لتسخين المياه ، ثم يتم توزيعها في قساطل قرميدية أو إسمنتية داخل جدران الحمامات ليعم الدفء كل الأرجاء
ورغم انتشار الحمامات في البيوت بأشكال وأساليب متطورة ، ما زالت الحمامات الشعبية تحظى بإقبال واسع من الناس بمختلف شرائحهم ومستوياتهم الاجتماعية ، وخاصة النساء اللواتي يسْتَعدْنَ من خلال ارتيادها ذكريات الطفولة وعادات جداتهن ، حيث لم تكن هناك مقاه أو مسارح أو أساليب ترفيه
وتتشكل الآن ظاهرة جديدة لم تشهدها الحمامات القديمة في سوريا ، كما يقول وليد الهيت مدير حمام يلبغا الناصري في حلب الذي يفتح أبوابه للنساء أيام السبت والاثنين والخميس ، وهذه الظاهرة هي إقبال السائحات الأجنبيات، ويضيف: حمام يلبغا ليس لمجرد الزيارة السياحية فحسب ، لكن للاستحمام الفعلي في مقصوراته المتعددة التي تشيع مناخاً تاريخياً من عبق الشرق ، وفي بداية عام ۱۹۹۵ زارت الحمام الفنانة الفرنسية كاترين دينيف وكتبت في سجل الزيارات «إنه لحمام ممتع جدا» بعد أن استحمت مستمتعة بأجواء المكان الساحرة .
حمامات الماضي : كانت زيارة الحمامات في الماضي جزءاً مهماً من الحياة الاجتماعية للمرأة ، ورغم وجود الحمامات المنزلية كانت التجمعات النسائية توجد في الحمامات الشعبية نظراً للعناية الفائقة التي تتلقاها الفتاة أو السيدة من العاملات في هذه الحمامات حيث يعيد هذا الاستحمام لها الحيوية والنضارة ، مما جعل التهاليل الشعبية تتعدد حول زيارة الحمام ، ومنها : «يا رايحة على الحمام خديني معاكي لحملك البقجة وأمشي وراكي وإن كان أبوكي ما عطاني ياكي لأعمل عمايل ما عملها عنتر»
ولم تكن حمامات أيام زمان مقتصرة على جانب الاغتسال والنظافة والاسترواح ، بل كان ولا يزال ارتيادها محبباً في الشتاء والصيف لأن كثيرات يتمكنّ من التخلص من آلام الروماتيزم ، حيث تقوم «البلانة» بتدليك أماكن الألم بزيت الخروع أو الزنجبيل، ثم تستحم المرأة بالمياه الساخنة للتخفيف من حدة هذا الألم الذي يجد طريقه إلى العظام والمفاصل فيسكن فيها ، لتمارس هذه الحمامات مهمة مراكز المعالجة الحديثة ، لكن على الطريقة القديمة
وتتولى إدارة الحمام بالنسبة للنساء امرأة تدعى «المعلمة» تساعدها «الآيمة» وهي التي تغسل النساء ، و «الناطورة» التي تجلب المناشف وتخدم المستحمات وتنظف الحمام بعد خروجهن . وإذا كان الرجال يستحمون خلال ساعة أو ساعتين على أكثر تقدير ، فالأمر مختلف بالنسبة للنساء اللواتي يتحول الحمام بالنسبة إليهن إلى ما يشبه السيران ، وكانت النسوة يلتزمن بالحمام بأكمله ، أي يستأجرنه حتى انتهاء الفترة المخصصة لهن، وهي تمتد نحو ثماني ساعات تفصلها فترة تسمى «السدة» حيث تُسد صنابير المياه وتكون هذه الفترة مخصصة للاستراحة والأكل الذي غالباً ما يكون «المجدرة» مع المخللات، أو الزيت والزعتر، أو «الكبة الحلبية بانواعها»
ولطريقة الاستحمام طقوس خاصة ، حيث كانت المرأة تستريح في البهو «البراني»، بعد دخولها إلى الحمام، خلال عدة دقائق ريثما تقوم «البلانة» ، وهي المكلّفة بالعناية بزائرات الحمام(الميزر) ، بإرشادها إلى غرفة خلع الملابس ، ثم تتجه إلى حجرة البخار حيث تتولى البلانة دهنها بالزيوت المختلفة ثم تقوم بتدليكها بكيس من الجوخ (كيس التفريك) حتى تتخلص من الشوائب والغبار العالق بمسام جسمها ، وبعد الانتهاء من هذه العملية تتجه السيدة إلى المغطس حيث المياه الساخنة فتقوم البلانة بتدليكها لتصعد فيما بعد إلى مصطبة رخامية عالية حيث تسترخي لبضع دقائق لتقوم البلانة بتكييسها مرة ثانية وفي المرحلة الأخيرة تخرج السيدة لارتداء ملابسها ثم تتجه نحو البهو لتحتسي مشروباً ساخناً كالنعناع أو اليانسون قبل التأهب للخروج
وكانت حمامات النساء فرصة لإتمام الزواج والبحث عن عروس مناسبة ، إذا أرادت المرأة أن تخطب لابنها كانت تذهب إلى الحمام لتشاهد الصبايا وتختار منهن الفتاة الممشوقة القوام والخالية من العيوب الجسدية ، كما كان بعض النساء يصطحبن أبناءهن الصغار ، ومن طرائف ذلك أن إحداهن قد تصطحب ولداً كبيراً الأمر الذي يثير غضب المستحمات فيطلبن من أمه إخراجه بالمعروف قائلات بسخرية «خزات العين ، ليش ما جبتي أبوه كمان»، فإذا لم تخرجه بالمعروف أقدمن على ضربه بالطاسة ، وهي الوعاء التي كانت تستخدم لصب المياه
* * *